الحشرات ليست آفة.. واختفاؤها أعظم تهديد للكوكب

دوريات أجنبية

نشرت مجلة نيويوركر مقالا للكاتبة إليزابيث كولبرت تتناول فيه خطورة القضاء على الحشرات على حياة الكوكب، وتتحدث عن أهمية الحشرات والتهديدات التى تواجهها.. نعرض منه ما يلى.. فى صيف عام 1942، قرر إد ويلسون، البالغ من العمر ثلاثة عشر عاما، أن الوقت قد حان لإجراء أبحاث جدية وأن يصبح عالما فى علم الحشرات. عندما كان طفلا، كان مفتونا بالحياة البحرية. فى أحد الأيام، قفز على سمكة ليصطادها، واستقرت إحدى أشواكها فى عينه اليمنى. كان لابد من إجراء جراحة لإزالتها من العين، وبعد الجراحة، كانت الحشرات هى الكائنات الوحيدة التى استخدمت لاختبار قدرته على الرؤية بعد الجراحة.

فى ذلك الصيف، عقد ويلسون العزم على معرفة كل أنواع النمل التى تعيش فى منطقته السكنية بألاباما لم تكن المهمة شاقة، إذا اكتشف أربعة أنواع فقط، ولكن واحد من تلك الأنواع تبين أنه «اكتشاف العمر»، كما قال ويلسون بعد ما يقرب من ثمانين عاما. كان نوعا لم يره ويلسون من قبل، ويبدو أن لا أحد رآه أيضا من قبل شمال البرازيل.

الاسم العلمى لهذا النوع هو «سيلينوبسيس إنفيكتا Solenopsis invicta»، والاسم الدارج لها هو «نمل النار الأحمر المستورد». موطنه أمريكا الجنوبية، ويمتلك العديد من الخصائص غير المحببة للإنسان؛ فلدغته تنتج إحساسا حارقا وينتج عنها ما يشبه ببثور الجدرى. هو كائن شره، يأكل أى شىء؛ من لحاء الأشجار إلى النمل الأبيض، إلى بذور المحاصيل مثل القمح والذرة. من المعروف أن نمل النار الأحمر المستورد يقتل الطيور الوليدة، والسلاحف البحرية الصغيرة، وحتى، فى بعض الأحيان، الغزلان الصغيرة. يبنى حجورا صلبة تضر بمعدات الحصاد. إذا تعرضت مستعمرته لهجوم، يرسل نمل النار المستورد الأحمر الآلاف للقتال. أدخل ويلسون ذراعه ذات مرة فى مستعمرة للنمل الأحمر ووصف الألم بأنه «لا يطاق.. وكأننى صببت الكيروسين على يدى وأشعلته».

من شبه المؤكد أنه تم إدخال نمل النار الأحمر المستورد إلى الولايات المتحدة عبر شحنة تم تفريغها فى ميناء موبايل بألاباما. فى البداية، عاش النمل فى أماكن محدودة وفقا لما توصل إليه ويلسون، ولكن بعد ذلك سرعان ما تغير الأمر وبدأ نمل النار الأحمر فى الانتشار. فى عام 1949، بينما كان ويلسون طالبا فى جامعة ألاباما، تم تعيينه لإجراء دراسة عن هذا النوع من النمل Solenopsis invicta. وجد ويلسون أن النمل انتشر بالفعل غربا إلى المسيسيبى وشرقا إلى فلوريدا. هذا دفع ويلسون إلى متابعة أحلامه فى عالم الحشرات.

بحلول عام 1953، انتشر نمل النار الأحمر المستورد شمالا حتى ولاية تينيسى وغربا حتى تكساس، وبدأ ما يسمى بحرب النمل النارى. فى البداية، زودت ولاية مسيسيبى المزارعين بالكلوردان، وهو مبيد حشرى حظر استخدامه لفترة طويلة. ولكن تأثيره كان محدودا. شنت وزارة الزراعة الأمريكية بعد ذلك حملة لرش سباعى الكلور والديلدرين ــ وهما مبيدان حشريان تم حظرهما الآن ــ على ملايين الأفدنة من الأراضى الزراعية. قتلت الحملة عددا لا يحصى من الطيور البرية، إلى جانب أعداد كبيرة من الأسماك والأبقار والقطط والكلاب. ولكن لم تقض الحملة على النمل. شنت الوزارة حملة جديدة ووضعت نصب أعينها القضاء على النمل تماما باستخدام كلور ميركس، وهو كلور عضوى آخر تم حظره منذ ذلك الحين. فى أواخر الستينيات من القرن الماضى، تم رش أكثر من أربعة عشر مليون فدان بالميركس، وهو من مسببات اضطراب الغدد الصماء. هذه الحملة انتهت بانتشار أكبر لنمل النار الأحمر؛ حيث تم القضاء على أنواع النمل المحلية الأخرى التى كانت تعمل على منع انتشار نمل النار الأحمر. •••

ديف جولسون ــ عالم الحشرات فى جامعة ساسكس، وهو مثل ويلسون، قرر دراسة الحشرات لأنه وجدها آسرة، والآن يدرس ما يهددها ــ يتحسر على حقيقة أن الكثير من الناس يعتبرون الحشرات آفات، ويدعو الناس إلى التأمل فى روعتهم. على سبيل المثال، الزنبور اللّمّاع يلسع فرائسه ــ الصراصير الكبيرة ــ وتحولها إلى حالة تشبه الزومبى، ثم يمضغون أطراف قرون الاستشعار الخاصة بالصراصير، ويستخدمون جذوع الأشجار لوضع البيض بداخله. النمل الأبيض المتقدم فى السن من النوع Neocapritermes taracua يطور أكياسا حول بطنه مليئة بالبروتينات الغنية بالنحاس،

وإذا كان هناك هجوم على المستعمرة وبدأ يشعر النمل الأبيض بالهزيمة، يفجر النمل الأبيض المسن نفسه لحماية المستعمرة، وهى ممارسة تُعرف باسم الإيثار الانتحارى. الحشرات بالطبع لها أهمية حيوية، وتعد الفئة الأكبر من المخلوقات على الأرض، مع ما يقرب من مليون نوع تمت تسميته وأربعة أضعاف هذا الرقم لم يتم تحديده بعد. تدعم معظم الحشرات سلاسل الغذاء، وتعمل كملقحات رئيسية للكوكب، وتحلل الأجسام النافقة. يستشهد جولسون بملاحظة ويلسون: «إذا اختفت البشرية، فإن العالم سيرجع مرة أخرى إلى حالة التوازن الذى وجد قبل عشرة آلاف عام. أما إذا اختفت الحشرات، فسينهار العالم». •••

تواجه الحشرات العديد من التهديدات. أولا، خسارة الموائل. منذ ظهور مقال ويلسون فى مجلة Scientific American، فى عام 1989، فقدت أمريكا الجنوبية ما لا يقل عن ثلاثمائة مليون فدان من الغابات الاستوائية، وتعرضت منطقة جنوب شرق آسيا لخسائر مماثلة. فى أماكن مثل الولايات المتحدة وبريطانيا، التى أزيلت منها الغابات منذ عقود للزراعة، تختفى الشجيرات والبقع العشبية التى كانت توفر ملجأ للحشرات فى السابق. يشير جولسون أن استخدام الأسمدة يعد شكلا من أشكال تدمير الموائل؛ حيث يعزز تسرب الأسمدة من الحقول نمو نباتات دون أخرى، وهذه النباتات الأخرى هى التى تعتمد عليها العديد من الحشرات.

يمثل تغير المناخ والتلوث الضوئى وإدخال النوعيات الجديدة مخاطر أخرى. تطورت «عثة مدمر الفاروا» لتعيش على نحل العسل الآسيوى، وهى أصغر من نظيراتها الأوروبية. عندما تم استيراد نحل العسل الأوروبى إلى شرق آسيا، قفز العث عليها، وعندما تم نقل النحل الأوروبى إلى أماكن جديدة، ذهب العث معها. يحمل عث الفاروا أمراضا مثل فيروس الجناح المشوه، وكان له تأثير مدمر على نحل العسل الأوروبى، وربما تسبب فى فقدان مئات الآلاف من المستعمرات. فى الولايات المتحدة وفى العديد من الدول الأخرى، يتم التعامل مع نحل العسل الأوروبى باعتباره من الماشية؛ يتم نقله لتلقيح المحاصيل مثل التفاح واللوز، ويتم مراقبة صحته بعناية. ولكن ما هو تأثير الطفيليات ومسببات الأمراض المستوردة على النحل الآخر، ناهيك عن النمل والخنافس والصراصير والكائنات الأخرى؟

ثم هناك المبيدات الحشرية. يهتم جولسون بشكل خاص بفئة من المواد الكيميائية تعرف باسم مبيد النيونيكوتينويد، والذى يعتبر أكثر سمية من الميركس والكلوردان. تم تسويقها لأول مرة فى التسعينيات. بحلول عام 2010، وصل نسبة الإنفاق على هذا المبيد لاستخدامه على المحاصيل ثلاثة ملايين جنيه إسترلينى سنويا فى الولايات المتحدة، وما يقرب من مائتى ألف جنيه إسترلينى فى بريطانيا. مواد النيون قابلة للذوبان فى الماء، وبالتالى من الممكن التسرب إلى التربة والبرك ومن الممكن أن تمتصها النباتات. هناك جدل حول خطورة هذا المبيد على الحشرات، وخاصة النحل. وعلى الرغم من أن الاتحاد الأوروبى قد وجد ثلاثة أدلة قاوية لحظر استخدام ثلاثة أنواع من مواد النيون فى الهواء الطلق، إلا أن العديد من الدول الأوروبية تستخدم المواد الكيميائية التى يدل فيها مادة النيون بموجب قانون الطوارئ، ويستمر استخدامه أيضا فى جميع أنحاء العالم. •••

هناك العشرات من الإجراءات التى يمكننا اتخاذها من أجل تغيير علاقتنا مع المخلوقات الصغيرة التى تعيش من حولنا؛ من ضمنها رعاية الحدائق الصغيرة الخاصة، النظر إلى الأعشاب الضارة على أنها زهور برية، زراعة الشوارع بالأشجار المحلية، وفرض ضرائب على المبيدات الحشرية. القائمة طويلة ويمكن لكل شخص العثور على بعض التوصيات لاتباعها، مع التركيز على التقليل من استخدام المبيدات الحشرية.

ويلسون، الذى أطلق عليه لقب «أب التنوع البيولوجى»، لديه فكرة أكبر. فيجادل بأن الطريقة الوحيدة للحفاظ على حشرات العالم ــ وكل شىء آخر ــ هو وضع خمسين فى المائة منها فى «محميات لا تُنتهك». فى خمسين فى المائة من الكرة الأرضية، يمكن إنقاذ ما يقرب من خمسة وثمانين فى المائة من الأنواع التى تعيش على الكوكب وفقا لحساباته. هو يقر بأن المهمة شاقة، إلا أن الحفاظ على العالم يتطلب جهدا بشريا كبيرا يتناسب مع حجم المشكلة.

إعداد: ابتهال أحمد عبدالغني

نشر فى : الخميس 28 أكتوبر 2021 -

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

خلايا النحل السوداء المميزة لـ "غابة العسل" في تركيا

مستحضرات تجميل من العسل

يبني النحل أقراص العسل من أعلى إلى أسفل.